من يستحقون الذكر ..

علق أحدهم على نصيحة إدارية بأنه لا يوجد من يدير في القطاع العام بهذا الفكر، وانها “ماشية بالبركة” كما قال.

التعميم خطأ، والإنسان يصدر أحكامه وفق تجاربه الخاصة، وحتى إذا رأى بعينيه ما يخالفها بررها وفسرها من خلال تجاربه أيضا.

لو كتبت المرات التي “صدقت” فيها أن فلان أو فلانة “مظلومة” في عملها وأنها “متميزة” لكن الإدارة ظالمة وسيئة، ثم فوجئت بعد ذلك أنها غير ما تدعي لألفت كتب.

أسأل نفسي لماذا “انخدع” بالكلمات رغم التكرار، لا أجد سبباً سوى اني “افترض” ان الناس تتكلم بلسان الحقيقة، واني افترض ان “الاجتهاد” في العمل والإخلاص فيه “عادي”. ويبدو ان الامرين “مش عادي”.

كثيرين يقولون ولا يعملون، يشتكون وهم أس البلاء. الكسل والإهمال والتقصير هو “العادي” حتى ان أغلب الناس تتعامل معه بقبول بارد، ويزعجها من ينزعج منهم!

ومع ذلك فهناك طبعا كثيرين، مجتهدين، صادقين، مخلصين، ملتزمين. فكرت أكثر من مرة أن اكتب عن الشخصيات الإيجابية “المميزة” التي انعم الله علي بالعمل معهم والتعلم منهم. وكل واحد منهم على حدة والله كاف ان يغير حياة انسان من شخص عادي او متوسط إلى شخص “مميز”، خاصة هؤلاء الذين نقابلهم في بداية الطريق.

هذا الرجل “أ.د. محمود محمد على حسن” واحد منهم، اول من عملت معهم. وكان رئيس قطاع في جهة حكومية وكنت خريجة حديثة لم يمر عام على تخرجي. وشاء الله ان اعرفه من اول يوم عمل، وان اغادر هذا المكان بعد ثمان سنوات منهم عامان تحت رئاسته المباشرة، وستة أعوام سبقتهم كنت في رعايته وتعلمت منه الكثير جدا جدا. رغم انه لم يكن في نفس تخصصي، لكنه كان مؤمن جدا بدور التكنولوجيا وأهمية الميكنة، عنده أفكار كثيرة، ويحتاج من ينفذها.

تعلمت منه القيادة قبل الإدارة، حسن الاستماع للصغير قبل الكبير، البحث عن جذور المشكلة قبل حلها، الاهتمام بالحل الجذري وان استغرق وقت لا المسكنات المؤقتة. القرارات الجريئة الصحيحة. الإخلاص في العمل حد الإنهاك، الفخر بما “عملت” وليس بما “وصلت” إليه في عملي. الإصرار والمثابرة وان القائد الحق “معطي عام”، يُعلم، يصحح، يساند، يشجع، وعند الزلل يتحمل هو الكوارث لا الموظف الصغير!

وعلى المستوى الشخصي، “ابن البلد” الذي يقيم لمكتبه مائدة إفطار “على حسابه” وليس من ميزانية المكتب كل عدة شهور، ويجلس فيها وهو وكيل وزارة إلى جوار الساعي ويشاركه الاكل من نفس الصحن. كان يعرف كل موظف في المكتب “كإنسان”. يعرف ان عم فلان الساعي البسيط ابنته تعاني من داء البوليميا، وان هذا الموظف في حياته مشكلة كذا، و”يقف معهم” يساندهم في هذه المحن الشخصية.ألتحقت بدبلومة وانا اعمل في مكتبه فيسألني كل فترة عن أدائي فيها ويتوعدني انه لا يقبل نتائج سيئة يبررها انشغالي في العمل. لا انسى بعد مجهود خرافي بذلته لإعداد تقارير ستقدم للوزير انه وجه حديثه لي ولزملائي ممن انهكوا نفسهم في المهمة قائلا انه شاكر مجهودنا ومقدر له لكن على الانسان ان يراعي التوازن وان يفكر في حياته الشخصية وانه لن يتحمل وزر أي شخص تتأذى حياته الشخصية بسبب العمل ويبرأ من هذا الذنب.

كان ينبهنا إلى ضرورة التوازن وهو يأتي الى العمل في السابعة صباحاً وقد يغادره في الواحدة صباحاً ايضاً. ولا يمر أسبوع إلا وقد مر بنفسه على اغلب الإدارات والمكاتب، وتابع واستمع، وفهم، وعرف، وأخذ فكرة عمن لا يترك مكتبه ومنهمك في عمله، ومن مختفي طوال الوقت ولا يظهر إلا وقت الإجتماعات. لم يكن يخدعه نفاق، على العكس كان يكره المتزلفين والمتكلفين نظم كلمات المديح والثناء وبصراحة شديدة كان “بيهزأهم” 😊

لم يكن عملي وردياً في هذا المكان، كان هناك ضغوط، ومنافسة، وحروب لكن هذا الرجل كان دائماً يضع الأمور في نصابها، ويعيد كفة الميزان إلى وضعها العادل.

ورغم اني تركت هذا المكان منذ ما يقرب من خمس وعشرين عاماً وفقدت التواصل معه إلا ان سيرة هذا الرجل لم تفتر أبداً عن لساني، وكل من عملت معهم سمعوا عنه، وعن فضله عليّ، واهم من ذلك ان الله يعلم، وشخصيتي اليوم وبصمته فيها ليست “منتجه” الوحيد، غيري كثيرين! وأثر ما فعله معي، امتد لمن عملوا معي وتحت إدارتي. انطبع أسلوبه الأخلاقي الإنساني في الإدارة والعمل والتحفيز والإنتصار للحق في أسلوب عملي وطريقتي في الإدارة.

في حياتي العملية كان هذا الرجل ابي الروحي، ومعلمي الأول، وأستاذي وقدوتي. أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية وأقر عينه بأبنائه وأحفاده ونفعهم به خير نفع، بحق وعد الله لمن مثلهم و”كان أبوهما رجلاً صالحاً”.

وأسأل الله أن يفتح علي فأكتب عن آخرين غيره ممن مروا بحياتي وكان لهم طيب الأثر. فنحن للأسف نفرد الصفحات للمؤذيين الذين يستحقون مزابل التاريخ ونترك الصالحين وكأنهم “عادي” … والحق انهم “مش عادي” ابدأ هؤلاء من يستحقون الذكر والمعرفة والشكر.


Posted

in

, ,

by

Tags:

Comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: