في هذه الأيام أعمل في مشروع خاص يتطلب كتابة محتوى يستقطب الزائرين وصاحب ذلك انتباهي إلى ضرورة مراعاة شروط ال SEO ويقصد بها تنقيح لغة الموقع ومحتواه الكتابي ليحصل على تقدير مرتفع في محركات البحث وبالتالي تزداد فرص ظهوره للفئة المستهدفة. أعرف السيو بالطبع منذ فترة طويلة لكن لأول مرة أنتبه لأثاره “عملياً” ولما فرضه علينا جوجل كحامل مفاتيح الإنترنت والدليل شبه الأوحد لنا فى دهاليزها
الكتابة من أعرق الفنون وأقدمها، ولها قواعدها المعروفة مهما اختلفت لغة الكتابة فمتفق على وجوب أن تكون الكتابة صحيحة تحترم قواعد اللغة، ومن المعروف أنه كلما كان الكاتب قادر على الإيجاز كان أقوى، في البيان والتبيين مثلا قال معاوية لصحار بن عياش العبدي – ما تعدون البلاغة فيكم ؟ قال: الإيجاز. قال: وما الإيجاز؟ قال صحار: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ .
ويقول بعض الحكماء : البلاغة علم كثير في قول يسير. أو إجاعة اللفظ. وإشباع المعنى. ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز: فلان يفل المحز، ويصيب المفصل.
والأمر لا يقتصر على اللغة العربية لكن في الإنجليزية أيضاً – وأظن في جميع اللغات- الإختصار من البلاغة.
أتابع على الفيسبوك كاتب وفيلسوف مميز جدا ورغم انه يكتب منذ عدة سنوات إلا ان حجم متابعيه والتفاعل مع منشوراته القيمة جدا محدود جدا جدا، والآن أعرف بوضوح أن من أسباب ذلك انه موجز جدا فيما يكتب ويكتب بعمق. يكتب 3 سطور تقرأها في دقيقة ونصف ولكن قد تظل تفكر فيها عدة أيام تستبين معناها وتستوعبه لأنه كتابة حقيقة توصل لك فكر “أصلي” ذو قيمة. وكل هذا ليس له قيمة إذا لم يحقق شروط السيو ! والناس في أغلبهم “إمعات” لا يميزون الغث من السمين. يتبعون التافه ولا يهتمون للثمين لأن عقولهم أعيد تشكيلها لتخدم السيو فترى الجودة مرتبطة بعدد اللايكات وإن كان المحتوى تافه بلا قيمة!
لتعتبر الكتابة جيدة في هذا العصر هناك شروط تضرب بجمال اللغة عرض الحائط، قد تجد كتابات ركيكة لغة وصياغة لكنها تحقق شروط الكتابة على الانترنت من حيث الوصول إلى عدد معين من الكلمات وإستخدام كلمات مفتاحية وقواعد عديدة لا علاقة لأكثرها بقواعد الكتابة وجماليتها بل على العكس هي تحض وتدعم الكتابة الرديئة كما في فرض الوصول إلى عدد معين من الكلمات!
ويجيء السؤال المنطقي لمصلحة من ؟ هل يفيد القاريء في هذا الزمان أن يقرأ 3 صفحات بدلا من 3 سطور؟ إذا كانت في الحالتين المعلومة كاملة؟ بالطبع لا ليس في مصلحة القاريء ولا في مصلحة الكاتب الماهر الذي يقع عليه عبء أن يمسخ كتابته ويستطرد فيما لا يجب فيه إستطراد ويلوي كتابته لتستوفي شروط السيو وإلا لن يظهر موقعه أو تظهر كتاباته لأحد !
والسؤال لماذا هذه الشروط ؟ لأن ببساطة مقال من 3 صفحات سيتسع فيه المجال لنشر 6 إعلانات أو مشاهدتهم أو لأنه سيربط القاريء على الموقع ربع ساعة محققا ال Engagement فترة كافية لتحليل سلوكه ولماذا امضى هنا ساعة وهناك ربع ساعة ولماذا اغلق الشاشة هنا ونسي نفسه هناك ويحلل كل ذلك لتستطيع المنصة ومحرك البحث “إستهدافه” إستهداف دقيق بإعلانات وسلع … إلخ .أما لو كتبت المعلومة أو الرسالة في فقرة وقرأها القاريء في دقائق وانتهى الأمر فقد ضاع كل ذلك على المنصة و محرك البحث “المجانيان” اللذان لا ندفع فيهما إلا شيئاً بسيطاً … “أوقاتنا” التي هي “أعمارنا” !..
لا تهتم المنصات ومحركات البحث بك ولا بي ولا بمصلحة القاريء ولا الكاتب ولا الكتابة لكنها تهتم بالاعلانات وال Engagement فهذا ما يدر عليها دخل. وفي سبيل ذلك توظفك وتوظفني وتفرض علينا قواعدها التي تربح وحدها بها وتضيع وقتك ووقتي وتضيع الكتابة الجميلة.
تجربة الكتابة بشروط السيو تجربة مربكة، فأنا بين رغبتي أن يٌرى الموقع ويصل إليه الناس وبين إدراكي أن هذه الشروط حمقاء ليست في مصلحة أحد سوى من وضعوها، فماذا نحن فاعلون مع زمان نحن فيه تروس في ماكينة كبيرة تجبرنا على الحركة والدوران في فلكها .. وإلا …؟!
اترك تعليقًا