كان “….” يسير في طرقات المبنى الحكومي صائحا بأقذع الشتائم، يسخر منه البعض، يتجاهله البعض، ويحاول آخرون تهدئته ولا يفلح أياً منهم في أن يلجم لسانه، كان “….” عامل نظافة يعاني بعض الإعاقة الحركية والتأخر العقلي أما السباب فكان من نصيب الرجل الذي يشغل أعلى منصب في المبنى!
أدهشني تكرار المشهد بحذافيره عدة مرات في عدة سنوات، حتى قُدر لي أن أعمل مباشرة مع الشخص الذي يسبه “…..” وأرى باقي المشهد.
كان إذا وصل إلى مسامع صاحب المنصب الكبير السباب لم يستدعي “…..” ليفصله أويعاقبه، بل يستدعي من أغضبه أيا كان منصبه ليحقق فيما أقترفه!
تخيل أن يحُاسب موظف كبير لأنه أغضب “الفراش” ولا يحاسب الفراش!
شرفت بالعمل سنوات مع هذا الرجل الذي كان إهتمامه بإقامة العدل أكبر من إهتمامه بعقاب من يسبه.
تعلمت أن الكبير كبير بأخلاقه وأن المتدين متدين بفعله وأن ترويض النفس مجاهدة لا تنتهي وأن معاملة الناس على قدر عقولهم تحدي كبير، وأن العبرة “بفعل” الإنسان عند الإختبار وليس بقدر ما يحفظه أو يقوله من كلمات الحكمة أو الشعارات.
رأيت “نموذج” و “قدوة” لسلوك راق،مثالي في عدالته، نادر في تخطي “ذاته”. لشخص في منصب مرموق من الوارد جداً أن يُفتن صاحبه بما يملك من صلاحيات تمكنه من إنهاء الموقف فوراً وبلا “وجع دماغ” وتمنع تكراره ومع ذلك لا يستخدمها!
أدركت أن من أكبر النعم أن يكون الإنسان “سليم النفس”، لا يحتاج أن يداوي ضفعها أو نقصها بعذاب غيره أو إيذاؤه حتى لو كان عقاباً مستحقاً.
حكاية قديمة مر عليها عشرون عاماً أو يزيد، وظروف الحياة الآن أصعب،لكنها لا تخلوا ممن يستحقون أن نقتدي بهم ونقتفي أثارهم ونتعلم منهم
أدين لهذا الرجل بما تعلمته منه في الإدارة وفي التعامل مع الناس، عملت في أماكن أخرى وبيئات عمل دولية ربما تصنف “سطحياً” أنها أكثر رقيا، لكني أشهد أن أستاذي وأبي الروحي كان من أفضل المديرين الذين عملت معهم ومن أرقى الناس أخلاقاً وتواضعاً.
في مفازات التيه إحتياجنا للدليل الواعي والقدوة أهم وأكبر. أنتبه لمن تخالطهم،لا تنظر لمن هو أدنى منك في الأخلاق أو العلم لتقنع نفسك أنك “أفضل”.
أبحث عمن يفوقك “فعلاً” أخلاقاً وأدباً وديناً .. بسلوكه قبل كلماته .ألزمه، وأقتف أثره، وأحسن مصاحبته،وأصبر على ترويض نفسك،لتنجوا!
اترك تعليقًا