لست محور الكون ..

في حوار قديم مع زميل أمريكي حكى عن زوجته -وهي أستاذة جامعية- ذهبت لإصطحاب إبنتهما من المدرسة فوجدتها “مشغولة” باللعب مع أقرانها. طلبت البنت أن تتركها أمها ساعة إضافية تلعب. تركتها الأم وذهبت إلى مقهى قريب، حتى إنقضت الساعة ثم عادت لتصطحبها إلى البيت.
.
لم أسمع ما قاله زميلي بعدها ولم أستطع منع نفسي من التفكير:كيف إستطاعت الأم التعامل بهدوء مع الموقف؟ كيف تصرفت بهذه الطريقة “الغريبة” و”الغير مألوفة” كما بدت لي للوهلة الأولى إلا أنها بعين الإنصاف والتفكير السليم طريقة “صحيحة” و “مثالية”؟!
.
فقد منحت إبنتها ساعة من السعادة وعززت بداخلها الشعور بأنها إنسان له قيمة وإرادة منفصلة ورغباته تُحترم وتؤخذ بعين الإعتبار مما يعزز قوة الشخصية والثقة بالنفس.
كذلك منحت الأم نفسها ساعة ترفيه وإستراحة -وإن لم تكن مخططة- ربما أمضتها تقرأ كتاباً أو تنجز عملاً أو تحتسي قهوتها وهي تعيد تخطيط يومها!
***

أستدعت ذاكرتي عشرات المواقف المشابهة التي أدهشني فيها هدوء زملائي “الأجانب” مقارنة بعصبيتنا وتوترنا المزمن؟!
سألت نفسي لماذا يتعاملون “غالباً” إن لم يكن “دائماً” بهدوء أعصاب؟ لماذا لا تنفلت أعصابهم مثلما يغلب علينا؟
.
الإجابة هي تمتعهم بمهارات “الذكاء العاطفي” الذي يكتسبوه منذ نعومة أظفارهم و يعززه نمط حياة يحث عليه ونظام تعليم يعي أهميته!
.
الذكاء العاطفي يُعرف بأنه: “وعي الإنسان بمشاعره وقدرته على التحكم فيها والتعبير عنها بطريقة حسنة وإدارة علاقاته بحكمة و رأفة و رحمة”
.
ولزيادة الفهم دعني أكون أكثر صراحة في وصف علامات قلة “الذكاء العاطفي” !

الزوج العصبي بإستمرار، الزوجة النكدية التي لا تعرف سوى النكد ، الأم التي لا تكف عن الصراخ ليل نهار!

الأصدقاء والأقارب “المجرفين” للروح الساعون وراء مصالحهم عندك ومنك طوال الوقت دون ذرة تفكير فيما تحتاجه أنت أو ما تمر به.

“الغاضبون” منك لسبب خفي يشعرك أنك مقصر في أن تفهم “لوحدك” ما لا يقولون أو أنك بحاجة لدراسة التنجيم وإستقراء الغيب لتطلع على ما يدور في روؤسهم من إفتراضات وحسابات نحوك .

العصبية، الأنانية، التلاعب بمشاعر الآخرين، العدوان السلبي من “تلقيح” إلى “نميمة” إلى”غيبة”، إستنزاف وإستباحة الطلب والأخذ بلا حدود دون إكتراث بمن يعطي ويهب.
كل ما سبق من علامات تدني الذكاء العاطفي وبعبارة شاملة كل سلوك فحواه “أنا ومن بعدي الطوفان” ينم عن إنخفاض الذكاء العاطفي !
.

أهمية التمتع بدرجة مرتفعة من الذكاء العاطفي ليست مقصورة على الحياة الشخصية بل تمتد لتؤثر في دوائر العمل. حيث جاءت هذه المهارة على رأس المهارات المتوقع إزدياد الطلب عليها في سوق العمل بسبب تطورات الذكاء الصناعي، وفق ما جاء في تقرير أعده المنتدى الإقتصادى العالمي، ويمكن الرجوع للمنشور السابق في الصفحة لمزيد من التفصيل.
.
وأعود لأسأل لماذا لا نتقن التحكم في أعصابنا والتعامل بهدوء؟ لماذا تنفجر ثورات غضبنا لأتفه الأسباب أو حتى لأسباب هامة فتكون ناراً لا تبقِ ولا تَذر !
.
كلنا فريسة لضغوط الحياة اليومية وهو واقع يصعب تغييره أو حتى تجنبه. فمديرك المستفز،ساعات عملك الطويلة، ضغوط المذاكرة، مسئوليات البيت، ما تهدره من وقت وأعصاب في إشارات المرور والزحام اليومي كلها أمور لا تملك أن تغيرها!
وكلما تعرضت لموقف “سخيف” هنا أو “مستفز” هناك أعطى عقلك الأوامر لجسدك بالتحفز والإستعداد “للمعركة” فتتسارع ضربات القلب، ويتدفق الدم إلى الأطراف، ويرتفع ضغط الدم، مما يؤثر على جهازك المناعي سلباً.
.
كذلك يغلق المخ كل الدوائر “الإضافية” وهي كل ما لايلزم في “العِراك”. فيغلق دائرة التراحم، ويغلق دائرة الإنفتاح على أفكار الغير وإحتياجاتهم، ويغلق دائرة الإبداع!
.
يتحول الشخص إلى إنسان ضيق الأفق، عصبي المزاج، وقد يرتكب حماقات كبيرة في لحظات غضبه وإستفزازه يندم عليها أشد الندم بعدها. التعبير الدارج ” أتعصب ومخه قفل” تعبير دقيق جداً لما يحدث فعلاً بالجسم !
.
ما العمل إذن؟ أنستسلم للضغوط التي لا نملك تغييرها؟
و دعني أعيد صياغة السؤال بطريقة أكثر وضوحاً كيف نزيد “المساحة الروحية” بداخلنا لنستوعب مشاعر الآخرين؟
كيف نمنح أنفسنا الفرصة لإلتقاط الأنفاس وإستعادة زمام مشاعرنا برغم ضغوط الحياة؟
كيف نرفع منسوب الكرم الروحي في تعاملاتنا؟
كيف نترفع عن المشاحنات التافهة و “المناكفة”؟
كيف نتسامى عن تخطيط “المكائد” وتعمد المضايقة و التنغيص؟
كيف نتغافل تسامحاً -بلا حقد أو مرارة – لننعم بالهدوء؟
كيف ننظر بعين الإعتبار لمشاعر الآخرين وإحتياجاتهم قبل أن نطالبهم أن يرونا بعين الإعتبار والإهتمام؟
كيف تكون تصرفاتنا وقرارتنا متزنة، رحيمة، عاقلة، هادئة، فلا يعقبها مرارة ندم أو عبء خسارة؟!
كيف نفعل كل ذلك رغم ضغوط الحياة؟
.
الحل في السعى “لموازنة” ضغوط الحياة التي لا ترحم بأنشطة تجدد الروح، وبجعلها جزءً أساسياً من الروتين “اليومي”!
.
فعطلة نهاية الأسبوع غير كافية لترميم روحك وإستعادة نفسك من مطحنة الحياة اليومية!
وعلينا أن نفهم أن هناك فرق كبير بين أن تمنح نفسك بعض “الراحة” وبين أن “تجدد” روحك.
“الراحة” قد تكون بضع ساعات إضافية من النوم ، أو في تناول وجبة صحية وشهية، أو أن ترفه عن نفسك بمشاهدة فيلم أو حضور حفل موسيقي.
.

من الذكاء العاطفي أن تدرك أنك محور “كونك” الصغير، لكنك لست محور الكون !


وتتعلم أن ما “يجدد الروح والطاقة” ويملكك زمام مشاعرك أنشطة محددة علمياً وفق دراسات وتجارب مشتركة بين الطب البشري والنفسي؛ نحتاج أن نتعلمها ولأن “ندسها” في أيامنا دساً. أن نمارسها بصورة يومية حفاظاً على الإتزان النفسي ولتعويض ما تتلفه الضغوط اليومية في أجسادنا وصحتنا وأرواحنا.
ما هي تلك الأنشطة؟ كيف نطبقها ونستفيد منها؟ أستعرضها بالتفصيل معكم في تدوينة تالية؛بإذن الله.

Comments

رد واحد على “لست محور الكون ..”

  1. صورة أفاتار لست محور الكون … (2) – سُهى جاد

    […] التدوينة السابقة “لست محور الكون” توقفنا عند سؤال ما هي الأنشطة المجددة للروح، والتي […]

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

%d مدونون معجبون بهذه: