ماركوس اوريليوس إمبراطور روماني نشأ على الزهد، الحكمة، والأخلاق، فيلسوف وحكيم شغلته حروب فُرضت عليه، ولم تغره سلطاته المطلقة، وربما هو الحاكم الوحيد الذي عين شريك له طواعية – أخوه بالتبني فيرز- ووضعه حاكماً على قدم المساواة معه!
مرض مرضاً شديداً ألم به في طريق عودته من الحرب، فقفز “كاسيوس” مكانه على كرسي الحكم مظنة موته وكان كل ما يشغل ماركوس أوريليوس عندما وصله الخبر هو ألا تنشب حرب أهلية من جراء ذلك!
عندما علم أتباع كاسيوس أن ماركوس لا زال حياً، خافوا إنتقامه عند عودته فأنفضوا عن كاسيوس وقتله نفراً منهم وأتوا ماركوس برأسه فرفض لقائهم ولفظهم !
أتهم الكثيرون زوجته بالخيانة الزوجية وبأنها هي من ألبت عليه كاسيوس في غيابه، ومع ذلك لم يعير ماركوس هذا الكلام أي إهتمام ولم يظن في زوجته سوءً وظل محباً لها حتى ماتت.
كان محارباً شجاعاً وقائداً منتصراً، وحاكماً تمسك بالضمير والأخلاق، فخفف الكثير من قيود العبودية في عهده، ورعى الأعمال الخيرية، وأنشأ المدارس لتعليم الفقراء، وأقام العدل، وبذل العون في الكوارث، كان أب من لا أب له، لكن حدث في عهده إضطهاد للمسيحيين لم يكن هو فاعله لكن يصعب القول أنه لم يعلم به، ومما جاء على لسانه بخصوصهم يبدوا منه أنه لم يصله عنهم إلا الأكاذيب.
كان الدين الروماني الذي دان به ماركوس بالوراثة هو دين طفولي يسهل إتباعه، يقدم فيه الإنسان الرشاوى للألهة فيضمن رضاهم بغض النظر عن الصواب والخطأ، الإحسان والإساءة في أي شيء.
لذا كانت الفلسفة هي ملاذ الأرواح النقية الحائرة في بحثها عن معنى الوجود، في عصر ماركوس أورليوس كانت هناك مدرستان رئيسيتان ومتناقضتان، “الأبيقورية “، و المدرسة “الرواقية Stoic” القائمة على الزهد والرضا والبحث عن السعادة والمعنى داخل النفس لا في متع الدنيا Early positive psychology approach !.
نشأ ماركوس على تعاليم ومباديء المدرسة الرواقية ، المدرسة القائمة على أن التحلي بالأخلاق والقيم هو سبيل السعادة، وأن الحياة على الفطرة هي الوسيلة لذلك، وأن التدبر في الكون هو الطريق، وبذلك وصلوا أن هناك قوة واحدة وحيدة وراء الكون ونظامه الدقيق سموها “العقل المدبر”، “الإله”، “زيوس”، ولم يعتبروا تلك القوة كيان منفصل بذاته، لكن كيان موجود في كل ما في الكون من مخلوقات ومكونات.
مما قاله ماركوس : “أياً مما حدث/يحدث لك، هو مكتوب لك منذ بدء الخليقة. أنت وما حدث و ما يحدث لك جديلة واحدة صنعها القدر”
المدرسة الرواقية لا تدعوا للإنسحاب من العالم من منطلق أن الإنسان مسير، بل لأن عقل الإنسان فيه بعض من “العقل المدبر” وله حرية الإختيار .
بمنحة العقل المدبر بداخلنا نملك حرية “داخلية”، هي حريتنا في “رد الفعل” تجاه ما يحدث لنا !
بعض فلاسفة المدرسة الرواقية كسينكا يرى أن خير رد فعل ليس مجرد “الرضا” بأفعال القدر، ولكن بمحبتها، لأنها تقربنا مع من قدرها.
“أقبل ما حدث أياً كان، ثم تعامل معه بما يمليه عليك العقل الحكيم والتفكير السليم”
لا تناقض بين التيسيير والتخيير، “بعض الأمور موكلة لنا، وبعضها لا”، وفق المدرسة الرواقية أمثلة على ما لم نوكل به، وإن كان لنا أثر بسيط عليه:
– أراء وأفعال الغير
– الصحة
– السمعة
– الثراء
ما وكلنا به، هو كل ما ينشأ من أفكارنا ولنا تحكم كبير فيه مثل:
– أراؤنا
– قيمنا الأخلاقية
– معتقداتنا
– رغباتنا
– أهدافنا
وفق المدرسة الرواقية ما يتعس الناس هو تعليق سعادته على أشياء لم نُوكل بها، مما يجعل الإنسان عبداً لها. “الحر هو من لا يريد ما لم يكتب له، ومن لا يرفض ما كتب له، من لا يحتاج أي شيء من الناس. وإلا فهو عبد لما أراد، أو عبد ما يرفض، أو عبد ما تعلق به“
“الحرية في عدم الإكتراث بكل ما لم نُوكل به، والسعي لتحقيق السعادة بكل ما وُكلنا به”
بما أن رغباتنا موكلة إلينا، سنسعد إذا دربنا أنفسنا ألا ترغب فيما لم نُوكل به. لا يستطيع ذلك العوام، لذلك أكثر الناس عبد لما يريد: للمال، أو الشهوة، أو السلطة، أو الجاه والشهرة.
“إذا رأيت صاحب السلطة، ذكر نفسك أنك لا تحتاج سلطة. إذا رأيت ثري، أنظر في كل ما تملك غير المال. لأنك لو لم تملك شيء ستشعر بالبؤس، لكن أن تكون زاهداً في الثروة فتلك ملكية تفوق أي ثروة. إذا رأيت من له زوجه حسناء، أعلم أن زهدك في المرأة الحسناء أفضل. الزهد خير ما ملكت، لا يملكه ولا يقدر عليه أصحاب السلطة والمال والشهوات“
السعادة المعلقة على إمتلاك الأشياء هي سبب تعاستنا إذا حُرمنا منها، وحتى إن إمتلكنا ما علقنا سعادتنا عليه سيقض مضاجعنا الخوف من فقده!
الزهد لا يعني حرمان النفس من متع لم نوكل به، بل من الزهد أن نستمتع – دون تعلق– بما كتبه الله لنا، ولا نأسى على أياً مما لم يكتبه لنا.
الزاهد لا يأسى على ما لم يُرزق، ويستمتع بما رزق دون تعلق فلا يؤرقه هاجس الفقد أو الحرمان، ويرضى بالمنع إذا وقع.
“عهد الرضا”
من أحبه الله امتحنه، فالإمتحان “فرصة”، إما نراه جبل شاهق نتسلقه فنرتقي، أو نراه هاوية سحيقة ستبتلعنا، نحن من نقرر ونتصرف وفق ما قررنا.
أفكار هذه المدرسة وكتابات ماركوس الحكيمة أسرتني منذ عهد بعيد، الخلاص من هموم هذه الدنيا هو منحة الخواص، الذين أنعم الله عليهم بنعمة البصيرة والحكمة.
والناجي هو من يحيا حياة خالية من الصراعات مع الغير، فصراعه مع نفسه، و هدفه إخضاعها. لا يجزع من خطر، و لا تأسره شهوة. ولا يتعلق. هاديء في العاصفة، يرى الناس رؤية الرءوف المحسن، ويرى الله في كل شيء
اترك تعليقًا